| 0 التعليقات ]

تكدرت نفسي ومن داخل قتامة صدري طلعت برأسي فكرة عرضتها على رفاقي، قلت لهم إن الموت الذي نخشاه فإننا نتجرعه يوميا، واقترحت أن نفاوضهم لتحسين ظروف عيشنا وإن رفضوا طلبنا منهم قتلنا.وافقني المرحوم السي علال الرأي، وكان رجلا مسنا،حين قال: نعم نموت، ولن نكون أضعف من السيدة الزهراء التي اعتقلت بين الزاك وكلميم وتمردت عليهم في الاعتقال وأعطتهم درسا في الشجاعة.كانت مطالبنا أن نشبع قليلا وأن نتوصل بالسجائر ونرى الطبيب وأن يكفوا عن جلدنا ونحن نشتغل.كنا قرابة عشرين أسيرا واجتمعنا على كلمة واحدة. في صباح اليوم الموالي، عندما أيقظونا للعمل، طلبنا منهم أن نرى المسؤول فتعجبوا من ذلك الطلب الغريب عليهم، وكترجمة لذلك الاحساس الغريب الذي انتابهم تجاهنا، بدأت ضربات هراواتهم تتقاطر فوق رؤوسنا وظهورنا، مع برد الصباح الصحراوي القارس.في تلك الأثناء، كان المدير في طريقه إلى المركز على متن سيارة، ولما رآهم يجلدوننا سألهم عن السبب فأخبروه أننا نريد مقابلته شخصيا، فاستهزأ بنا:وهل أنا الملك حتى تريدون رؤيتي؟، ثم توجه إلي رأسا وسألني:ماذا تريد؟ فأجبته بسؤال:هل تريدون تشغيلنا أم قتلنا؟ فأجاب: نقتلكم ونقطع لحومكم، نفعل بكم كل ما نريد.

أستطيع فهم أو تفهم أشياء كثيرة ما عدا بغض الجزائريين للحسن الثاني، وهو سؤال يدور في خلدي كلما استعدت مشهدا لضابط جزائري يجبرني على شتم الملك الراحل على مرأى من شهود مازالوا على قيد الحياة هم ابراهيم بلحسن وحسن بن ابراهيم و عبد الله بنهار و محمد المراكشي والعبدلاوي محمد ومصطفى جبيلو لابد أنهم مازالوا يتذكرون بماذا أجبت ذلك الضابط، والدماء تسيل من فمي جراء اللكمات التي تلقيتها منه.امتنعت عن شتم الملك وقلت لهم إن الحسن الثاني ملك ولن أسبه، أهو الذي يعذبني؟ ولا تنسوا أصله الشريف وأن الله ينتقم للشرفاء ويكيد نيابة عنهم.استفزتهم كلماتي واستشاطوا غضبا وأنزلوا بي شر العذاب.كان الثمن يومين من التعذيب المتصل...وبلا هوادة.

استنزاف الأسرى

في بداية الثمانينات من القرن الماضي، استقبلت جبهة البوليساريو طوماس سانكارا في مركز الاستقبال المركزي الذي كان قد بناه الأسرى سنة 1981بتمويل منظمات اسبانية، يتوفر المركز على جميع أنواع التسلية الحرام من دعارة ووفسق وفجور وغير ذلك. كان ضباط البوليساريو يستقدمون عددا من الفتيات مجهولات النسب مدربات على الإمتاع الجنسي في كوبا وسورية وغيرها من الدول ذات العلاقات المثينة مع محمد عبد العزيز ومن يدورون في فلكه ويدور في فلكهم، ومن هؤلاء أذكر حضية واللوى وخيدة.وكانت فرصة لنا للتعرف لاول مرة على ما بداخل المخيمات:كثير من تلك الاماكن هي في الاصل محض قفار لا بشر فيها تستعمل فقط للدعاية لخرافة الشعب الصحراوي.وسياسة البوليساريو بهذا الخصوص هي "انجاب الابناء لتخليد الشهداء"، شعار يجعل كل من كانت عقيما او امتنعت عن الانجاب بعد سن الرشد تعد خائنة، وهذه أمور تعرفها البرلمانية المغربية كجمولة بنت بي جيدا بحكم معايشتها لذلك الواقع المشين، حيث كانت مديرة مخيم 27.

لم يكن مقامنا في المخيمات بالتجربة الهينة، بل كانت البوليساريو تدفع سكان المخيمات إلى رجمنا بالحجارة وسكب القاذورات علينا، لأن بداية الثمانينات عرفت اخراج القوات المسلحة الملكية لمقاتلي الجبهة من عمق الأماكن التي كانوا يعتبرونها محررة، وبالتالي كان علينا نحن المسجونين، أن نؤدي ثمن الهزيمة.وبقدر ما نسف الحزام الأمني اسطورة الاراضي المحررة، كان علينا تحمل الاذى الكبير الذي سلطته علينا زبانية عبد العزيز.

كانت حملات النظافة التي يقوم بها المسجونون المغاربة في تندوف وغيرها مناسبة للبوليساريو ليقولوا للعالم، وحلفائهم على الخصوص، إن لدينا فعلا شعبا بالمعنى الحقيقي، لكن الأمر كان مجرد احتيال ومجاز سياسي سرعان ما عرته الحقيقة التاريخية والعسكرية على الميدان.

امضينا بمخيم السمارة عشرة أيام، كنا نذهب إلى هناك ثم يعيدوننا ليلا إلى الرابوني.كانوا يخشون إن بقينا هناك.لم تكن الجبهة تأمن على شيء من هجوم قواتنا المسلحة، ولم تستثن من ذلك حتى المناطق الداخلية مثل الرابوني.حين كنا ننتهي من الاشغال الشاقة نهارا،ونساق سوقا إلى أماكن ضيقة نبيت فيها وقوفا كالمواشي، كنت اسرح بخيالي بعيدا بعيدا إلى أن يستوقفني سؤال حارق:كيف تثق مجموعة من الدول يفترض أنها تغلب المنطق والمصلحة المستقبلية لسياساتها، مع عصابات مثل الجبهة؟ كما كان يراودني احساس هو أقرب إلى درجة اليقين أن الامر سينتهي الى فشل بين وأن محنتنا عابرة في الزمن وأن الارض لأصحابها وأن كيان المغرب يتعرض لاختبار سرعان ما سيجتازه.في المخيمات كانوا يسموننا المواشي، ولكم أن تتصوروا سلوك مقاتلين يؤتى بهم إلى المخيمات وتطلق أيديهم ليفعلوا ما يشاؤون بالناس والأرض والنسل والعرض؟.من مخيم إلى آخر، ورحلة عذاب لا تنتهي...إلى أن وصلنا إلى "ولاية مخيم العيون"، التي كان على رأسها المسمى الخليل سيدي محمد، من قبيلة ركيبات السواعد، تربى وترعرع بالجزائر.هناك أتى ضباط جزائريون رفقة سائقي الحفارات للاشراف على تشغيلنا وحفر الخنادق.التقيت في تلك الأيام ضابطا مغربيا من مدينة طانطان، من قبيلة الفقرا.سألني ذلك الضابط ان كنت أعرف خلفيات حملات النظافة داخل المخيمات فلخصت له رأيي أن الامر يتعلق برغبة سياسية داخلية للجبهة جعلتها تأتي بنا لتبين للمحتجزين لديها، والذي تسميهم زورا شعبا صحراويا، أنها ماتزال صامدة! مقابل الهزائم على الأرض.بعد عشرة أيام بمخيم العيون، شتتونا على مخيمي 27 و الداخلة حيث وجدنا فتيات تخضعن لتداريب عسكرية تحت مسؤولية محمد فاضل، من سكان كلميم، والذي انشق عن الجبهة لاحقا.وكان لنا لقاء مع فاضل اخبرنا أنه يهيئ الدكتوراه وأنه جاء لفترة عابرة للمخيمات وسيعود إلى الخارج، كما أطلعنا عن تفكيره في العودة إلى المغرب.

مخيم 27 يونيو ، المتكون من حوالي ألفي خيمة، كان تحت مسؤولية المسماة فاطمة العلالي،ويمكنني الجزم بأنه عاصمة الفساد بامتياز : كنت أشاهد فتيات صغيرات في عمر الزهور يجررن وراءهن ثلاثة و أربعة أبناء مجهولي النسب، ولذلك كان يوجد بالمخيم مستشفى للولادة مجهز باحدث التقنيات والمعدات الطبية لأن الولادات تحصل كل يوم، ومجهولو النسب يأتون إلى عالم مظلم على التوالي، حيث يسمونهم أبناء الثورة، لكن أية ثورة هذه التي تحمل صبيانا إلى كوبا لتسرق منهم براءتهم؟

كان الطيران المغربي يشن الغارة تلو الأخرى على مواقع البوليساريو، ولذلك أمضينا في المخيم 27 شهرا في حفر الخنادق تحسبا لهجوم جوي مغربي.كنت ضمن جماعة اقتيدت إلى الرابوني، بالمركز الخلفي للناحية الخامسة، لحفر خنادق عديدة جعلت ذلك المكان الصحراوي القاحل شبه غربال! وكانت فلسلفة حفر الخنادق تخفي خوفا وهلعا كبيرين من هجوم مغربي مباغت.

بعد شهر من الحفر أعادونا للرابوني وبعدها انطلقت "الحملات" في كل مكان: حملة بالنخيلة لبناء مراكز الإشارة وحملة للجرحى ومعطوبي الحرب الذين كنا نسميهم "النصاص" أي أنصاف أجساد لمخلوقات مشوهة نتيجة ما حصل لهم في المواجهات العسكرية، وحملة للكتابة العامة التابعة لمحمد عبد العزيز. كنت ضمن المجموعة التي ذهبت ل"النخيلة"، وقد سميت كذلك لوجود نخلة وحيدة بالمكان الذي تحول إلى مزرعة مساحتها حوالي عشرين هكتارا.كان علينا بناء مقر سكن ل"النصاص" وما أكثرهم. كان يشرف علينا المجرمان المحيجيب كرينات ومحمد نافع "السبيك" إضافة إلى قتلة آخرين مثل المدعويين الراسكلو والدب.بعدها وجهوني للعمل في ما يسمى "الكتابة العامة التي كان يشرف عليها حسن الملقب ب "موغال"، وقد اخترنا له هذه الصفة لأنه كثير الضجيج مثل طائرات من نوع "موغال".

ماحفرناه في ظرف أسبوعين هناك لا يقوى عليه حتى الفراعنة.بنينا قرية أول لنقل مدينة صغيرة فيها كل شئ.لا يمكنني تقدير الأموال الباهظة التي تم صرفها على إعداد المراقص للجزائريين ليرتادها نهاية كل أسبوع الضباط الجزائريون، بعيدا عن تندوف رغبة منهم في مكان هادئ يلائم عربداتهم ومجونهم.من الكتابة العامة إلى "الإشارة"..وتستمر "الحملات" حتى وصلوا بنا لمركز الناحية الخامسة لترميمه بعد أن أنضم إليه مركز الناحية الثانية الذي كان يوجد أصلا بالقرب من منطقة "تفاريتي" لكن قواتنا المسلحة طردتهم من هناك فجاءوا إلى الناحية الخامسة.كانوا حريصين على ألا نعرف التغيير الذي طرأ على خريطتهم العسكرية لكننا كنا نعيش بينهم ونعلم كل كبيرة وصغيرة.كل الذين مروا مثلي بهذه السنوات الطويلة للسجن بالأراضي الجزائرية يمكن للمغرب، في حال اقتضت الضرورة، أن يعتمد علينا في التطوع مرة أخرى لأننا نعرف خبايا الأمور والخرائط شبرا شبرا.

جمعوا المساجين وقد كنا حوالي خمسمائة أخذنا لوادي النبكة ليبدأ شوط آخر من العذاب.أرادوا بناء مخيم جديد، بعد أن تم نقل المخيم المجاور للرابوني الذي سيصبح "ولاية أوسرد".تفرقنا إلى مجموعات مكونة من مائة إلى مائة وخمسين مسجونا وتوزعت المهام بين إعداد الآجر أي "البريك" والحفر ليل نهار تحت أنظار مائتي حارس مزودين بثلاثين سيارة جيب وأربعين شاحنة.كانوا يقصدون تعذيبنا ما استطاعوا لذلك سبيلا بحرماننا من الأكل وتقديم المياه المالحة لمن يعطش منا، ما تسبب في حالات حادة وكثيرة من الإسهال وأمراض أخرى.بعد تشييد المخيم الجديد كان علينا بناء مقر للولاية ثم المستشفى..والأدهى أننا أمرنا ببناء مساكن لأبناء "الشهداء"..أي أبناء الباغيات.ولا مبالغة فقد أخبرنا بذلك ولد نافع، الموجود حاليا بالعيون وقد كان مسؤول الأمن هناك أيامئذ.لم تكن مساكن بالمعنى الطبيعي بل مواخير للبغاء تسمى "تشابولات" وقد أعددنا ستمائة تشابولا.ولكم أن تتصوروا حجم الفساد.

في تلك الظروف العصيبة اتفقت مع ادريس الوالي والهبوب وعبد الرزاق وبوجغول والمخير والشرقاوي عزيز وعبد الله القنيطري للقيام بمحاولة فرار إلا أنه تم القبض على أربعة منهم وتمت تصفيتهم .رأيت كثيرا من الجلادين لم يكن من ضمنهم لا عمر الحضرمي ولا دا ولد حميم لقد رأيت كل شئ بعيني. رأيت جلادين آخرين مثل عبد الله ولد الحبيب ولد البلال ومحمد الأمين ولد ديديه قائد الناحية ومسؤول الأمن هم من أخذوا الفارين الأربعة للتصفية.وفي ذلك اليوم بالضبط أخذوني ضمن مائة وعشرين آخرين لمخيم السمارة تحت إمرة مسؤول السجون آنداك محمد المختار ولد هنية.

وصلنا في يوم بارد مشؤوم تخللته الاستنطاقات والويلات وقد تمنيت الموت وكدت أنتحر لولا الخوف من المصير الأخروي.ترحيلنا تزامن مع ذكرى السابع والعشرين من فبراير لكي يبينوا "للشعب الصحراوي" أنهم مازالوا موجودين، وكلها أحابيل مكشوفة للعسكر الجزائري.

جاء عمر الحضرمي لمعاينة الوضع ذات يوم ولما لاحظ الوجوه الكالحة والأجساد المريضة للمسجونين سأل الدكتور عزالدين، وهو مغربي اعتقل في البويرات، عن الأمر فأخبره بالحقيية: الجوع والعري والمرض فأحضر لنا الحضرمي الملابس والنعال والدواء وبطانيتين لكل مسجون ونحر لنا أربعة نوق.كانت مخاطرة من الرجل لا شك.أعادونا بعدها لمخيم أوسرد وبدأ الحفر وانتهت الاحتفالات لنعاد لمخيم العيون.لماذا؟ كي نهدم ما بنيناه..وتستمر المأساة ويستمر العبث.

ومن هناك إلى "البوسط سينك" أي مخيم ثاني عشر أكتوبر، لبناء دار للسينما هناك.وما ميزهذه الفترة هو الشفقة النسبية لعبيدة الشيخ المسؤول عن المركز.ولم نكد نتم بناء السينما حتى سلط الله على القوم عاصفة طوفانية أتت على كل ما بنوه من عرقنا ودمائنا طيلة سنة ونصف في أوسرد.غضب الله سيترجموه إلى غضب علينا طبعا وسنبني كل ما تهدم.بعد أوسدر القديم أقمنا لهم أوسردا جديدا.أتذكر الحارس العين "الفطح" الذي ضربني و حسن البشير المراكشي ضربا مبرحا كي يرهب بنا السجناء.هكذا من دون سبب.

أتذكر والي أوسرد الحرطاني الحسن المتحدر من طانطان، كان واليا لكنه ناكرا لأصله، وقد كان أول مدير لإذاعة البوليساريو التي كنا نسميها إذاعة الحيط لأنهم كانوا يعلقون بوقا على الحائط لإسماعنا ترهاتهم وأوهامهم لإغاظتنا.الحريطاني هذا كان قاسيا علينا كثيرا وكانت له نظرية ملخصها أن يشغل كل سجين كما لو كانت له طاقة رجلين.

أحمد الجلالي
londonsebou@hotmail.co.uk

0 التعليقات

إرسال تعليق

 
') }else{document.write('') } }