كان النعمة ولد الجماني وزيرا للصحة آنداك حينما أخذت رفقة سبعة أخرين لما يسمى بالمستشفى الوطني.كانت الظروف أقل وطأة من حيث الأكل والشرب والغطاء، لولا سادية السجان الأمين المعروف ب "لمن" وهو من أزواد مالي.كان كلبا مسعورا في صفة بشر.بعد شهرين تسلط علينا ميتشيل ولد هنية وسراق الزيت "المصيطيفى" اللذين استكثرا علينا تلك "النعمة" فقرروا إرجاعنا لأوسرد العذاب. في تلك الأيام تكبدوا خسائر في الأرواح والعتاد في مواجهة مع المغرب وكان عدد الجرحى كبيرا، وكانوا يحتاجون إلى الدماء، وبما أننا كنا رهن الإشارة في كل شئ فقد قرروا أخذ الدماء من المساجين لحقن جرحاهم، ويا للمصادفة العجيبة فقد كنت أول من يسرق منه دمه. خمسة وخمسون مغربيا حملوا على متن شاحنة للمستشفى العسكري بالرويضة.نصف لتر يسرق من دم كل مسجون ويؤمرون بالتوجه مباشرة للأشغال الشاقة والويل لمن أبدا الامتعاض.في تلك المجزرة كان يأتينا المسى "اللوا" وينظر في وجوهنا وكل من رأى على محياه تقززا يسبه أو يضربه.
و"اللوا"هذا لقيط ابن باغية تدعى "السيدة امي" المعروفة في أوساط الرذيلة هناك، وقد كانت تذهب مع المقاتلين إلى ساحة المواجهات لتشجهم وتعدهم بأن تمكنهم من مضاجعة أجمل ما لديها من فتيات.إنها قوادة الجمهورية دون منازع، وقد كانت تفرض على الفتيات أن يلدن بأية طريقة. والأكيد أن كجمولة بنت بي تعرف هذه الحقائق.في مخيم الرويضة التقينا الكوبيين في المستشفى، وهؤلاء القوم كانوا يطهون الدجاج دون إزالة مخالبه،ورغم الجوع لم نكن نستطيع أن نأكل بقايا أكلهم العفن.
هكذا قاومنا الموت والجوع والمرض والجلاد
في يوم من الأيام حدثت جلبة وشاهدنا طائرات وسيارات ولم نعرف السبب إلا عندما أخبرنا بوجمعة ولد جامع بأنهم كانوا يعدون لإقامة ضيعات لتربية الدواجن.كانوا يشغلون المئات من الأسرى ويأتون بالأجانب ليكذبوا عليهم بأن الشعب الصحراوي يبني جمهوريته على الرمال. وذات مرة فضحهم خفية المغربي الشرقاوي عزيز لدى زيارة وفد محسوب على باربارا سيمون.ولو اكتشفوا أمر عزيز لكانوا أعدموه على التو.شيدنا عددا من الاسطبلات المعدة لتربية الدجاج وتفقيص فراخه وأعدوا احتفالا باذخا لاستقبال وزير الفلاحة الجزائري وعدد من الجنرالات بالإضافة إلى وفود أروبية وإسبانية من الموالين للمرتزقة.وقد بلغ بهم النفاق أن ألبسونا الزي العسكري كي لا نبدوا سجناء أمام الأجانب، لكن المضحك في الأمر كان عندما شرعوا في تقديم "السيد وزير الفلاحة والتنمية"...و"المزارعين" في تلك القفار للزوارالأجانب، والشروع في توقيع الاتفاقيات.مسرحيات محزنة في الهواء الطلق.ومن حرقة في قلوبنا كنا نعمد لتخريب ما نبت من تلك المزروعات الماسخة في أرض ملعونة سسيطر غليها قطاع طرق وأبناء زنى.
كنا نخفي الخضر بطرق شتى ونطبخها في المعتقل وقد كانت الرائحة تصل إلى خياشيمهم فيجن جنونهم ويصابون بالهستيريا لكي يعرفوا مصدرها.وأحيانا كانوا يجردوننا من ملابسنا للبحث عن الجزر.ابتكرت حيلة كانت موفقة.كان لدي معطف أو على الأصح مجموعة من الأسمال المتلاصقة على جسدي بالخيط.وبدل أن أخفي بعض حبات الخضر في الجيوب كنت أعلقها بخيوط وعندما كان يعمد السجان إلى تفتيشي من الخلف كنت أدفعها إلى الأمام ولما يبحث في المنطقة الأمامية أسحب الخيط إلى الخلف، في لعبة غميضة من أجل الاحتفاظ بأكل ضمن لعبة أكبر، إنها لعبة الجوع القاتل والرغبة في البقاء على قيد الحياة.وكان لكل مسجون طريقته في إخفاء الفتات أو أي شئ يؤكل.كل هذا كان يحدث في مخيم الرابوني عام 1985 من القرن الذي مضى.
امبارك ولد ميلد، الملقب بيننا بامبارك القرد، كان مسؤول المخيم.وكان شقيقه مسؤولا عن المعطوبين.وقد كنا، في غفلة من الحراس، ننغص حياة المكفوفين خصوصا،وكنا نسفه تضحياتهم ومنهم من كان يبكيه كلامنا.وكان هناك حمقى ومهابيل من كل صنف.وذات يوم صعد مختل عقليا مكانا وأذن فينا ثم ختم بجملة "ماجاء به محماد حق" و "محماد" تعني لهم المغاربة.أغضبت العبارة السجانين فقتلوه.
كنا نصارع السجان والمرض والجوع ونفكر ونبتكر الحيل وأحيانا نقدم على مغامرات خطيرة. وهنا تحضرني شهامة رفيق لي من زمور كان يدعى الحسن القريطيط.اتفقنا أن نسرق مخزنا لعلب السردين المصبر كان معدا للمعطوبين، بأن نتناوب في المراقبة يدخل واحد منا وإذا ما كشف أمره يقول للحارس إن مدير الأمن خطري هو من أمرنا بأصلاح نافذة أو باب المخزن.تسلل الحسن وبدأ يستل من كل صندوق علبة بحيث لا نكثر من العلب المسروقة كي لا يفطنوا بنا،مصلحتنا كانت أن نستمر في الاقتيات.أخذنا العلب لنبشر رفاقنا، الذين مات بعضهم تلك السنة نتيجة القهر والأمراض والتعذيب والكمد، وأذكر منهم الحسن وعبد الرزاق الوريني والبزيوي والحسين السوسي وبنسالم الطبيب وغيرهم ممن لا أستحضر أسماءهم.أعطيت كل واحد علبة واشترطت أن كل من ضبط فليتحمل مسؤوليته.فرحوا كثيرا بوجبه تلك الليلة.صديقي قريطيط استلذ السردين، وكان كل يوم يهدم نافذة المخزن ثم يعيد بناءها إلى أن قاده حظه يوما إلى داخل المخزن حيث كان يوجد الحارس.كان نصيب حسن حصة محترمة من التعذيب لكنه صمد ولم يعترف بأني شريكه، ومع ذلك شكوا في أمري ونلت الصفعات من أيدي المعطوبين.أحالوني رفقة حسن على الجلاد بركة الذي ضربني حتى صرخ الدم من وجهي وأنفي، ثم نهرنا وأمرنا بالانصراف للعمل.وبما أننا نلنا العذاب الأليم فقد استولينا على صندوق بكامله من السردين في اليوم نفسه.."اللي ليها ليها"، وأخفينا العلب بطرق لا تخطر على بال.
عنت ل"بيزات" فكرة بناء مقر لمحمد يسلم ولد الميلس وهو أحد تجار المرتزقة بالنخيلة،وقد كان طباخا لدى الإسبان في بداياته، أخواله من أيت باعمران وهو مقرب جدا للجزائريين،أما مساعده محمد سالم الملقب بمانويل، فهو مهرب سلاح بين موريتانيا والجزائر.كان طول الأسوار التي ستحيط بالضيعة حوالي عشرة كيلومترات.استمرت الأشغال ليلا ونهارا.وكان أول ما يشغل مهندسيهم أن يشرعوا في تصميم أماكن البغاء قبل اي مرفق آخر.
قسمونا فريقين وأخذوني ضمن مجموعة توجهت إلى مكرز الغزواني للتموين العسكري المعروف لدينا بمركز الثمر.كان الهدف من إقامة هذا المركز تخصيصه للتهريب، فقد ضاقت السبل بالمرتزقة بعد هزائم متتالية فاجتمعوا وأقروا تحويل نشاطهم إلى تهريب السلاح والتموين للمتاجرة بها على الصعيد الأفريقي.وضمن كبار المهربين كان السيداتي، المعروف بقاتل الأسرى.تسلط علينا جزائري يسمى ولد مسعود ففرض علينا أقصى درجات السرعة في العمل، وكان في الحراسة محمد ولد الرشيد من اولاد تدرارين الذي كان يتولى تعذيبنا بسبب وبدونه،والويل لمن عثر على قطعة معدنية في جيبه.وفضلا عن هذا كانت الحاويات المعدنية هي مساكننا، تصوروا وضعنا في حاوية معدنية في صحراء حارة قاحلة وشديدة البرودة ليلا.والأدهى من قساوة الطبيعة كانت قسوة مسؤول الإمدادات محمد ولد ديديه،الذي تلقى تدريبا من خمس سنوات في كوبا وكان خبيرا في تعذيب المساجين وإهانتهم وتجويعهم..وقد ذهب ضحية هذا الوضع شاب من تازة يسمى الشريف الذي أصيب بسرطان الرئة، ومع انعدام العناية الطبية وافته المنية فحفروا له حفرة وانتهت قصة إنسان بكل هذه البساطة المحزنة.
استمرت الأشغال في مركز الغزواني إلى أن أخذونا إلى موقع آخر يسمى العرض العسكري.وكان بيشة الأعور، من سكان الجزائر، هو المسؤول الأمني وقد استقبلنا بيشة بالكلام النابي الذي لا يوجد في قاموس البشر الأسوياء.العرض العسكري كان مخصصا للأمن العسكري حيث كانوا يصفون كل من يشمون فيه رائحة الرأي المخالف.أمرونا ببناء مدرسة خاصة بالاستخبارات.لاحظت وجود مطبخ خاص بالكوبيين والجزائريين.وبالمناسبة في هذا المركز أكل عزيز المنبهي وشرب مع أعداء الوطن وقد كان يتردد أيضا على "البوسط سينك"، وبما أن شابا يدعى فارس، من بني ورين، كان يشتغل طباخا فقد رآه بأم عينيه هناك.
لاحظنا حالة من الطوارئ بدأت تلف المكان.جاءت إلى هناك وفود من عدة دول وكان لا بد من أخذنا لتأثيث الديكور وعرضنا على الضيوف.كان في مقدمة الوفود الجزائريون وعلى رأسهم شقيق ابراهيم غالي وولد البوهالي ومحمد لمين ولد ديديه وفاطمة العلالي بالإضافة إلى الوفد الإيراني.وكان أول من توجه إليه المسؤول الفارسي بالكلام القبيح حول المغرب القبطان علي نجاب، لكن رفيقنا نجاب واجهه بمنطق أن إسلامية إيران وشيوعية الجزائر لا يلتقيان وطلب منه أن يبلغ الخميني أسفه كيف تتعامل دولة عريقة مع قطاع طرق وسفاحين، وبنفس الروح انبرى القبطان جوهر لإعطاء الدروس للمسؤول الإيراني على مسمع من الجزائريين.وقبل انصراف الجمع أخذ نجاب ورفاقه للزنازن وحصص التعذيب.لكننا لم نتخل عن إخواننا حيث كنا نبتكر طرقا لرفع معنوياتهم، وتسريب الماء والشاي والجرائد والأخبار إلى ضباط مغاربة يرفعون رؤوسنا في مثل هذه المواقف.والزنزانة أو "السيلون" التي كان فيها نجاب وجوهر وعلي عثمان عبارة عن حفرة تحت أرضية بها غيران جهنمية موصولة بأدراج وفق ترتيب رقمي.والحياة داخل الزنازين حجيم لا يصدق، وقد ظل علي نجاب بها شهورا عديدة حتى صار شبه مقعد، إلى أن جاء عمر الحضرمي يوما وأخذه إلى "جردة النخيلة" وأسر له بأن الجماعة يتآمرون لقتله، ونصحه بالتحدث في إذاعة البوليساريو كي يخرجوه من الزنزانة مطمئنا إياه بأن ذلك هو الحل الوحيد وأضاف الحضرمي "لا عليك من أن تنافق لإنقاذ روحك" وأنه لا الحسن الثاني ولا الحكومة سيلومونك على ما قلت، إن كانوا اصلا يأبهون بهذه الإذاعة. وقد استشارنا نجاب في الموضوع فقلنا له اذهب وافعل ما تنقذ به نفسك يكفيك عذابا فنحن نعرف إخلاصك ولا يهم ما استكرهت عليه من أمر.وفعلا كان في ذلك خلاص نجاب من هلاك بات وشيكا.
أحمد الجلالي
londonsebou@hotmail.co.uk
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق