بعد أسبوع أخذوني إلى الرابوني، 25 كيلومترا إلى الجنوب من تندوف. كان قائد المعتقل يدعى الغزواني الذي مات لاحقا بفعل حادث في المعتقل.
بدأت تجربتي في الرابوني بنوع من الدهشة والهواجس والكوابيس. لقد فتحت عيني لأول مرة على مشاهد لا عهد لبصري بها: مساجين مثل أشباح تتراكض هنا وهناك، معطوبون في كل مكان، حفاة يهرعون في كل الاتجاهات، الكرابيج تلفح ظهور الآدميين في كل لحظة ولأسباب لا أفهمها والعصي تنزل على الرقاب دون هوادة ولا رحمة.وبينما كنت أتأمل جاءني جلاد يدعى العلالي وضربني ضربة لن أنساها مدى الحياة. رموني في حفرة عمقها أكثر من أربعة أمتار. مكثت بها قرابة ساعتين قبل أن يطل علي وجه قبيح ورمى لي بقطعة خبز معفر بالرمال وقليل من العدس. كنت جوعانا جدا والقمل يسيح في سائر جسدي.تلك كانت الليلة الأولى وذلك كان واجب الضيافة.
بدأت أتأمل حالة القبطان الطاهري وبوبكر الطيار الذي أسقطت طائرته القوات الجزائرية، والزكاي ميمون. كانوا في ويلات لا توصف. ولم يكن الأمر يستثني الموريطانيين أيضا ومنهم المختار ولد بيبة ومحمد سالم ولد بيركات و سيدنا ولد محمد فاضل وهو سائق قطار، وفال بابا وعلي ولد امخيليل وهم من خيرة الناس بالإضافة إلى جنود موريطانيين مثل وجاهة و أحمد سالم والسالك ولد الرباني والمرحوم الشيخ الناجي والملازم ميسى. رفعت بصري إلى السماء وحمدت ربي وقلت في نفسي: ومن أكون أنا أمام هؤلاء الأبطال الأشاوس؟ والله لن أحزن. في تلك الليلة وضعوني في حفرة وجدت فيها بي ولد محمد البشير، والد البرلمانية كجمولة بنت بي، التي كانت التحقت بالبوليساريو لحماية أبيها المهدد بالموت وهو واحد من الوطنيين المغاربة من جيش التحرير المقاومين.وقد قال لي بي إن دوام هذا الحال من المحال وعليك أن تصبر وإننا لابد خارجون من هذا السجن أحياء أو موتى فشعرت بحماس أكبر وأدركت ما معنى أن تكون مقاوما وعادت بي الذاكرة إلى ما قبل اعتقالي عندما كنت ألتقي وطنيين مغاربة صحراويين مثل علي ولد بوعيدة الذي كان يمدني بالمال الوافر ويحثني على بذل ما في جهدي من أجل الحفاظ على الكيان المغربي وتثبيت أقدام الوجود المغربي بصحرائه. والتاريخ يشهد بهذا، ويشهد ربي أني كنت عدوا لدودا للبوليساريو حتى وأنا بين مخالبه كنت أمارس التخريب في صفوفه وأسعى إلى إفساده بما أوتيت من حيلة وقوة.لم أكن أخلص في عمل ولا أجد في أية مهمة أوكلت إلي وكانت الضريبة مقابل ذلك العصا و رقص السياط على جلدي. ويجب ألا أنسى أن من بين من صادفت في الرابوني كان الأخ مربيه ربو ولد الشيخ ماء العينين وعمر ولد يحضيه وبوجمعة وهو واحد من قبيلة إزركيين.
تعرفت على رفاقي المغاربة وشعرت أني بين أهلي مهما كانت الظروف. وظروفنا المعيشية التي كانت تنتظرني طيلة ربع قرن تعرفت على بعضها عندما أتونا بوجبة العشاء ذات ليلة من ماض أذكره، حيث أطعمونا طعاما ترفضه معدة وشهية الكلاب: خبز نتن فيه رائحة الزيت وماء أحمر اللون مطعم برائحة المحروقات لا تستطيع ابتلاعه. وتتابعت وجوه الجلادين أمامنا مثل الغزواني ومحمد الشيخ من سكان تندوف و محمد لامين وهم عصابة كبيرة معها ستة جزائريين لا يعرفون من أساليب الحوار سوى الجلد ولا يفهمون غير لغة التعذيب ولا يعرفون من لغة البلاغة غير السب والشتم القارس والويل ثم الويل لمن قاده حظه إليهم، يبيتون طيلة الليلة واليوم يستنطقون ليس بمعنى الاستنطاق كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ وإنما هي حيلة فقط لكي يمثل السجين بين أيديهم فيشبعون ساديتهم بتعذيبه والتنكيل به.كان الانتقام من المغاربة هو هاجسهم في كل حين.جاءنا ضابط جزائري وبدأ في فرز المساجين وجعل منا ثلاث فئات هي الصحراوين وغير الصحراويين والموريطانيين لزرع الرعب في النفوس وبث الخوف في الأفئدة. أمضينا ثلاثة أشهر على تلك الحال من الجوع والويل إلى درجة أنني ذات ليلة بينما كنت ذاهبا لقضاء الحاجة وجدت في طريقي بقايا أرز عفن مفرغا على صفيحة حجر فلم أتردد في التهامه رحمة بأمعائي التي يقطعها الجوع.ويجب ألا تمر هذه المرحلة دون أن أذكر ليلة ألقوا القبض على جنود مغاربة في معركة أمكالة وصحراويين واحد منهم من تدرارين وموريطاني قتلوه في تلك الليلة تحت ضرب السياط. ومع مرور الوقت لم نعد نخشى سياطهم وصرنا ننافس الموريطانيين في القدرة على تحمل الضرب، صرنا أقرب شيء إلى الدواب التي يتقوى جلدها وتموت طبقته العليا فيصير أكثر جلَدا وأقل إحساسا بالألم.
بدأت تجربتي في الرابوني بنوع من الدهشة والهواجس والكوابيس. لقد فتحت عيني لأول مرة على مشاهد لا عهد لبصري بها: مساجين مثل أشباح تتراكض هنا وهناك، معطوبون في كل مكان، حفاة يهرعون في كل الاتجاهات، الكرابيج تلفح ظهور الآدميين في كل لحظة ولأسباب لا أفهمها والعصي تنزل على الرقاب دون هوادة ولا رحمة.وبينما كنت أتأمل جاءني جلاد يدعى العلالي وضربني ضربة لن أنساها مدى الحياة. رموني في حفرة عمقها أكثر من أربعة أمتار. مكثت بها قرابة ساعتين قبل أن يطل علي وجه قبيح ورمى لي بقطعة خبز معفر بالرمال وقليل من العدس. كنت جوعانا جدا والقمل يسيح في سائر جسدي.تلك كانت الليلة الأولى وذلك كان واجب الضيافة.
بدأت أتأمل حالة القبطان الطاهري وبوبكر الطيار الذي أسقطت طائرته القوات الجزائرية، والزكاي ميمون. كانوا في ويلات لا توصف. ولم يكن الأمر يستثني الموريطانيين أيضا ومنهم المختار ولد بيبة ومحمد سالم ولد بيركات و سيدنا ولد محمد فاضل وهو سائق قطار، وفال بابا وعلي ولد امخيليل وهم من خيرة الناس بالإضافة إلى جنود موريطانيين مثل وجاهة و أحمد سالم والسالك ولد الرباني والمرحوم الشيخ الناجي والملازم ميسى. رفعت بصري إلى السماء وحمدت ربي وقلت في نفسي: ومن أكون أنا أمام هؤلاء الأبطال الأشاوس؟ والله لن أحزن. في تلك الليلة وضعوني في حفرة وجدت فيها بي ولد محمد البشير، والد البرلمانية كجمولة بنت بي، التي كانت التحقت بالبوليساريو لحماية أبيها المهدد بالموت وهو واحد من الوطنيين المغاربة من جيش التحرير المقاومين.وقد قال لي بي إن دوام هذا الحال من المحال وعليك أن تصبر وإننا لابد خارجون من هذا السجن أحياء أو موتى فشعرت بحماس أكبر وأدركت ما معنى أن تكون مقاوما وعادت بي الذاكرة إلى ما قبل اعتقالي عندما كنت ألتقي وطنيين مغاربة صحراويين مثل علي ولد بوعيدة الذي كان يمدني بالمال الوافر ويحثني على بذل ما في جهدي من أجل الحفاظ على الكيان المغربي وتثبيت أقدام الوجود المغربي بصحرائه. والتاريخ يشهد بهذا، ويشهد ربي أني كنت عدوا لدودا للبوليساريو حتى وأنا بين مخالبه كنت أمارس التخريب في صفوفه وأسعى إلى إفساده بما أوتيت من حيلة وقوة.لم أكن أخلص في عمل ولا أجد في أية مهمة أوكلت إلي وكانت الضريبة مقابل ذلك العصا و رقص السياط على جلدي. ويجب ألا أنسى أن من بين من صادفت في الرابوني كان الأخ مربيه ربو ولد الشيخ ماء العينين وعمر ولد يحضيه وبوجمعة وهو واحد من قبيلة إزركيين.
تعرفت على رفاقي المغاربة وشعرت أني بين أهلي مهما كانت الظروف. وظروفنا المعيشية التي كانت تنتظرني طيلة ربع قرن تعرفت على بعضها عندما أتونا بوجبة العشاء ذات ليلة من ماض أذكره، حيث أطعمونا طعاما ترفضه معدة وشهية الكلاب: خبز نتن فيه رائحة الزيت وماء أحمر اللون مطعم برائحة المحروقات لا تستطيع ابتلاعه. وتتابعت وجوه الجلادين أمامنا مثل الغزواني ومحمد الشيخ من سكان تندوف و محمد لامين وهم عصابة كبيرة معها ستة جزائريين لا يعرفون من أساليب الحوار سوى الجلد ولا يفهمون غير لغة التعذيب ولا يعرفون من لغة البلاغة غير السب والشتم القارس والويل ثم الويل لمن قاده حظه إليهم، يبيتون طيلة الليلة واليوم يستنطقون ليس بمعنى الاستنطاق كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ وإنما هي حيلة فقط لكي يمثل السجين بين أيديهم فيشبعون ساديتهم بتعذيبه والتنكيل به.كان الانتقام من المغاربة هو هاجسهم في كل حين.جاءنا ضابط جزائري وبدأ في فرز المساجين وجعل منا ثلاث فئات هي الصحراوين وغير الصحراويين والموريطانيين لزرع الرعب في النفوس وبث الخوف في الأفئدة. أمضينا ثلاثة أشهر على تلك الحال من الجوع والويل إلى درجة أنني ذات ليلة بينما كنت ذاهبا لقضاء الحاجة وجدت في طريقي بقايا أرز عفن مفرغا على صفيحة حجر فلم أتردد في التهامه رحمة بأمعائي التي يقطعها الجوع.ويجب ألا تمر هذه المرحلة دون أن أذكر ليلة ألقوا القبض على جنود مغاربة في معركة أمكالة وصحراويين واحد منهم من تدرارين وموريطاني قتلوه في تلك الليلة تحت ضرب السياط. ومع مرور الوقت لم نعد نخشى سياطهم وصرنا ننافس الموريطانيين في القدرة على تحمل الضرب، صرنا أقرب شيء إلى الدواب التي يتقوى جلدها وتموت طبقته العليا فيصير أكثر جلَدا وأقل إحساسا بالألم.
أحمد الجلالي
0 التعليقات
إرسال تعليق