أسماء هؤلاء الحراس ستظل مقرونة في ذهني بمعاني السادية والقمع الوحشي وكل ما هو جهنمي وصهيوني.وإليكم أول لقاء لنا، نحن المحتجزين بقائد المركز عمر ولد علي بويا.بدا في البداية كمن يريد أن يكون مسالما وديعا من خلال ترحيب كان مزيجا بين السخرية والزيف حين خاطبنا: "تعرفون أن هناك مثلا يقول الجبال لا تلتقي ولكن الرجال تلتقي؟" شعرنا أن ثمة شيئا ما سيحدث. شيء لن يكون خيرا على أية حال. لذنا بصمت لم يقطعه سوى تدخل رفيق لنا من تازة، وربما صدر عن سذاجة أو عن حسن نية ليست في محلها حين أجاب ردا على ولد علي بوها: "نعم هذا صحيح الرجال تلتقي أما الجبال فلا". فأجابه ولد علي بويا: معمر بويا ما يتلاكا مع بوك، لكن عندنا الجبال تلتقي، أنظروا إلى ذلك الجبلين (حيث يوجد بينهما معتقل الدخل) سيلتقي هذان الجبلان.وفعلا مع مرور الوقت التقى الجبلان وسد المحتجزون ما بين الفجين بالقهر والعرق والجوع والدماء وإزهاق الأرواح.من دمائنا شيد سجن الدخل في حلته الجديدة، كما أرادها "بيزات".وحين قدمنا إلى هذا المعتقل الرهيب وجدنا قوما آخرين سبقونا إليه من مغاربة وموريتانيين. كانوا حفاة عراة جوعى.إذا أردنا أن نتحرك من مكان إلى آخر كان على الواحد منا أن يرفع يديه إلى الهواء تحت حراسة عشرة زبانية، أما قضاء الحاجات الطبيعية فما عدا ثلاثة مواعيد وهي الصباح والثانية زوالا والعاشرة ليلا فلم يكن مسموحا لنا باستعمال أجسامنا كما أراد لها الخالق أن تستعمل، وكثير من الناس كانوا يقضون حاجاتهم وقوفا أو قعودا.وفي المساء الأخير، بعد أن يكونوا شبعوا منا حرثا وتنكيلا كانوا يعيدوننا إلى الحفر، وهي زنازن أرضية غير مغطاة نبيت فيها مكدسين دون أن يكون بإمكاننا التحدث إلى بعضنا، وفي الصباح نساق كالدواب إلى الأشغال الشاقة حيث تظل السياط تأكل طيلة اليوم من ظهورنا. وهكذا كانت الأيام تمر، وكان للزمن طعم جحيم وسقر ليس في العالم الأخروي وإنما بأرض الجزائر الظالمة.
لمحت عمر ولد علي بويا يتحدث إلى أحد زبانيته كان يدعى مصطفى يقف إلى جانب آخر يسمى الناجم الذي قتله صهريج ماء وقع عليه لاحقا، كان ولد علي يشير باتجاهي. عرفت أن الحديث يدور حولي. لم يحدثني أحد في تلك اللحظة ولم أومر بشيء. تركني أعداء الله أحفر حتى المساء فجاء إلي أحد المرتزقة وأمرني بأن أضع الفأس وأتبعه. وجدت نفسي بعد لحظات وجها لوجه مع ولد علي بويا. بادرني بهذه الكلمات: أنتم إذن هم المغاربة، قتلتم منا من قتلتم، أنتم أصحاب حرب الرمال. ذكر حرب الرمال بنوع من الحقد لم تمحه السخرية المصطنعة. بقيت متسمرا في مكاني لا أقول شيئا.فقد صوابه فأخذ هراوة وضربني على قفايا ضربة فقدت الوعي على إثرها. دخلت في غيبوبة لم أعلم خلالها ماذا كان يصنع بي.شعرت لاحقا بأنني معلق في الهواء، وفي منتصف الليل لما أفقت وجدت نفسي وسط عدد من الموتى، أجساد إلى جنبي لا حراك فيها. تأكدت لما تحسست جسدي أني أصبحت من شدة التعذيب كأطمار رثة الشيء الذي جعلهم يظنون أنني فارقت الحياة. حوالي التاسعة صباحا جاؤوا ليأخذوا الموتى إلى بئر يخفون فيه الجثث.اكتشفوا أنني مازلت حيا فأخذوني إلى ولد علي بويا. كنت مكسر العظام ممزق اللحم خائر القوى.حملوني إلى مغارة ورموني بين إخوتي.لما رآني زملائي بدأوا يبكون لأنهم كانوا ألفوني في السابق وكنت رغم العذاب أحاول أن أؤنسهم بما لدي من حكايات ومواعظ. اعتقدوا أنني مت ففوجئوا بي أعود إليهم من جديد.أسعفوني بما لديهم من ماء وأكل. قضيت ثلاثة أيام شبه فاقد للوعي، بعدها جاءني ولد علي بويا ومن معه وأمروني بالعودة إلى الأشغال الشاقة مجددا. وهل لي أن أرفض؟. قطعا يستحيل.
سأكتشف لاحقا أنه مباشرة بعد عودتي إلى حياة الجحيم من موت بدا للأعداء محققا، أن الزبانية، في نوبة من نوبات السادية التي لا تفارقهم كانوا قد قرروا أن يتناوبوا على قتلنا وهكذا طلبوا من بكار، وهو من قبيلة إزركيين أن يقتل مجموعة أشخاص كان من ضمنهم موريتاني يدعى العيد وخويا علي المراكشي وأحمد التطواني والناضر والكابران شاف المحجوب وعبد ربه، وهي تمارين كانوا يقومون بها بين الفينة والأخرى كلما شعروا أن قلوبهم مهددة بفيروس الشفقة أو داء الرحمة. كنت سأصبح نسيا منسيا ضمن من كانوا سيصفون، لولا أن الألطاف الإلهية جعلت بكار يهتدي إلى رأي اتفق معه باقي الزبانية على وجاهته، ومؤدى هذا الرأي أنهم إن قتلونا فلن يستفيدوا منا وبالتالي عليهم أن يبقوا علينا أحياء لاستغلال طاقاتنا وشبابنا في البناء والأشغال القذرة. وقد قال لي بكار بعد سنوات من ذلك وبحضور ابراهيم بن الضايف، إنهم اجتمعوا في الرابوني في ذلك الوقت وبعد مشاورات استقر رأيهم على عدم إبادتنا.وقد علق بكار على ذلك موجها القول لي: "إن عدت إلى بلادك فعليك أن تسمي نفسك من جديد لأنك كنت أقرب إلى الموت من حبل الوريد". والأكيد أنه لو أعطي أمر قتلنا لواحد آخر من الجلادين لما تردد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق