| 0 التعليقات ]


في ظرف شهر أقيمت المنصة،وشيدت المطاعم والمراقص والحانات وغلفت الحيطان بقماش قادم من ليبيا "الأخ العقيد" فضلا عن الأسلحة التي وهبها القذافي لهم مثل المصفحات من نوع " 14-5 كوادري تيب" و " 23 بي تيب" و"لورغ ستالين 40 كانو"، وهي أسلحة شاركت في الاستعراض العسكري الذي قاموا به في ذلك اليوم الذي رأينا فيه وجوها من وركلة تمتطي صهوة الجياد، فهل للبوليساريو خيول؟ فضلا عن وفود كثيرة حضرت من مختلف البلدان العربية من مصريين يتزعمهم سعد الدين الشاذلي وليبيين وسوريين وفلسطينيين كجورج حبش ووجوه أخرى من الفيتنام والكامبودج والاتحاد السوفياتي وكوريين شماليين وإيرانيين على عهد الخميني.من رأى تلك البهرجات يعتقد أن في الأمر "شعبا" ما يقف وراء ذلك البناء، ولكن واقع الأمر أنهم كانوا يستعملوننا في التشييد لتزيين الواجهة ويأتون بالفلكلور من الجزائر ويقولون للوفود الأجنبية إن على تلك الأرض "شعبا صحراويا".وحتى الصحافيين الذين حضروا ضمن وفود أجنبية كانوا مرتشين متواطئين ورغم أننا كنا نقول لهم الحقيقة إلا أنهم كانوا يغضون الطرف عنها.

بعد ذلك وزعونا ما بين الرابوني و9 يونيو و مركز 12 أكتوبر وهو مركز للتعذيب والقهر والاغتيال وضعوا على رأسه المجرم الكبير السويدي ولد وكاك وعلى رأس مصلحة الخدمة العامة الجلاد علي ولد الهديم الذي كنيناه ب "لاليرت" و "دفة الحبس"، لأنه كان بدينا قوي البنية يشبه البغال إلى حد كبير خلقا وسلوكا.وقد أرادت مشيئة الله تعالى ألا أكون ضمن المجموعة التي ذهبوا بها إلى هذا المعتقل الرهيب حيث وقعت عدة مجازر واغتيالات في صفوف الصحراويين الذين رفضوا ذلك الوضع وتلك السياسة، ومن ضمن الضحايا طالب من أيتوسة وآخرين، ولا أظن الحسن ولد الخليل سينسى يوما كاد الجلادون يقتلونه ضربا ولما ملوا من سلخه أمروه برفع العلبة الخلفية للسيارة، ووضعها على كتفيه والطواف بها على طول خط الدفاع وهي مساحة تقارب عشر كيلومترات، كان عليه أن لا يدع تلك الكتلة الحديدية التي يفوق وزنها قنطارا تسقط من على منكبيه وإلا كان مصيره القتل بحجة: هذا سجين ضعيف البنية لا يصلح للعمل والتخلص منه أحسن من الإبقاء عليه! هكذا بكل بساطة.وقد كان الله في عون الحسن بأن قطع المسافة بسلام وعندما لم يجدوا حجة قالوا: طيب هذا خير من يصلح للحفر والبناء واقتادوه فورا إلى حفرة خلط عجين الآجر.
لنعد إلى مركز 9 يونيو، حيث مكثت، ومن ذكرياتي في هذه الفترة أذكر المعتقل الموريتاني الحافظ، وهو ضابط سابق بالدرك الموريتاني، كنت والحافظ نشتغل ونمسك فيما بيننا “الشارية”، وهي عبارة عن كيس لحمل التراب يمسك به من طرفيه، فشعر الحافظ بالرغبة في التبول فطلب الإذن من الحارس لكن الأخير ضربه فإذا بالحافظ ينظر إليه بطريقة تنم عن حقد فنهره الحارس: لم تحملق في هكذا ألم يعجبك نظامنا؟ فأجابه الحافظ: عن أي نظام تتحدث، ما أنتم إلا مرتزقة! فأخذت أضحك من الحارس متشفيا، فسارع الخطى نحو الزبانية وأخبرهم بما كان منا فجاؤوا إلينا ثم اقتادونا إلى مكان قريب على مرأى من المعتقلين ونادوا على خمسة سجانين و بدأوا بالموريتاني ولم يتركوه إلا وقد كسروا ضلعه ولما أتى دوري سحقوني سحقا ووضعوا الرمال في أذني ولما انتهوا مني كنت والحافظ في عداد الموتى.أما الأخ ابراهيم الذي اعتقل إبان أحداث طانطان، وكنا نلقبه "ابراهيم الطاكسي" فقد عثر على علبة للبسكويت من صنع ليبي فسرقها لكن الحارس بوخنيشيش واسمه الحقيقي محمد يسلم رصده فأبلغ الجلادين بما رأى فجاء خمسة من الزبانية يجرون ابراهيم الطاكسي جرا ووضعوه أرضا إلى جانبي ونالوا من جلدنا إلى أن كسروا منا العظام.بعدها التفتت إلى إبراهيم وقلت له يا أخي ليس في الإمكان أسوأ مما نحن عليه من عذاب، انظر إلى ذلك المخزن لقد غفل الأعداء هيا بنا ننهب ما نستطيع الحصول عليه، وبالفعل تسللنا إلى المحل وأخذنا علبا من المصبرات والتهمناها ثم طمرنا العلب الفارغة تحت التراب. استمرت »الشغلة الحارة« إلى حوالي التاسعة ليلا قبل أن يفكوا السلاسل التي تقيدنا ويعيدونا إلى جحورنا، حيث وجدت الموريتانيين وبي ولد محمد البشير والد كجمولة و مربيه ربه ولد الشيخ ماء العينيين وعمر ولد يحضيه وبوجمعة من إزركيين وشيخ طاعن في السن يدعى محسون والسلامي الملقب ببوعيلا من أولاد ادليم. ومن بين ما قاله لي ولد محمد البشير: إننا لا بد خارجون من هذا السجن إما أحياء أو أمواتا فلا تحزن يا ولدي.
انتهوا من بناء الجناح الأول من الأقسام وشرعوا في جناح آخر فأمروني بتولي مهمة البناء فأجبتهم أنني لا أعرف ولم يسبق لي أن اشتغلت بناء ونفس الشيء ادعاه الحافظ، لكن ذلك لم ينفع حيث جعلوا مني بناء رغم أنفي.في ظرف لا يتعدى ستة أشهر شيدنا أكثر من ستين قسما طول كل واحد عشرون مترا وعرضه عشرة أمتار فضلا عن مطاعم طول الواحد منها مائة متر وعرضها خمسون ومستشفيات بكل ما تتطلبه من مرافق.ومن شدة العذاب أصبحنا كومة من الإهانة مغلفة باليأس، ولعل ذلك ما دفعني ذات يوم وقد كنت مع السارجان أحمد نتحدث في أمور مختلفة فإذا بي أرى طيورا تمر فوق سماء المعتقل فتنهدت وتمنيت لو كنا مثل تلك الطيور نستطيع التحليق نحو الوطن ونخلص أرواحنا وأجسادنا من العذاب المهين، ولكن هيهات.


احمد الجلالي
londonsebou@hotmail.co.uk

0 التعليقات

إرسال تعليق

 
') }else{document.write('') } }