الاثنين، 14 سبتمبر 2009

أين المفر؟


كان من بين رفاقي الأخ محمد "الشار" الذي سبق أن اعتقل في معركة واد تيغزرت حيث فقد دبابته، ولم يستسغ ما حصل له أبدا وكنا نلقبه بالشار نسبة إلى الآلية العسكرية التي فقدها. تحدثت إليه يوما عن إمكانية الهروب من الجحيم الذي كنا فيه فنبهني إلى أن وقت الفرار لم يحن بعد، سيما أن عيون الجزائريين لا تنام أبدا، وقد أمضى معنا محمد الشار حوالي أسبوعين قبل أن ينقلوه إلى "الجردة" نواحي حوزة رفقة مصطفى قرارا وشخص آخر. ولم يكن الشار يوحي بأنه نبه يفطن لكل ما يجري حوله بل على العكس من ذلك كان يعطي الانطباع لمن يراه بكونه سهل الانقياد أقرب ما يكون للغباء، ولذلك موه الأعداء فأصبحوا يأمنون جانبه نسبيا.استغل الشار الموقف وقرر القيام بعملية فرار وكان حارسه أولى ضحاياه حيث احتال عليه ونزع سلاحه وقتله ثم انتظر قدوم الشاحنة العسكرية التي اعتادت المرور بالحراس. ارتدى الشار بذلة الحارس.نزل الأربعة الذين كانوا على متن الحافلة ففاجأهم الشار بوابل من الرصاص فصفاهم جميعا. ركب الشاحنة وتوكل على الله. تبعوه وطاردوه، لكنه لم يستسلم. استمرت المطاردة إلى أن استشهد عليه رحمة الله، وله عزة الشهادة.
اعتدنا أن نؤدي ثمن كل محاولة فرار يقوم بها أحدنا سواء نجحت أو فشلت. كانت التبعات ثقيلة. دخلوا علينا هائجين وأخذوا يفتشون كل ركن من المعتقلات التي كنا فيها. أخرجونا من جحورنا لنبيت في العراء، دون أن يقولوا ولو كلمة، وقبيل الفجر بدأت حفلات الجلد والرفس والتنكيل.
أما الثمن الذي أديته أنا بالمناسبة تلك فقد جاءني ثلاثة جلادين وأنزلوني من فوق سقف مخزن وتناوبوا علي بالكرابيج ثم أنزلوني إلى حفرة صنع الآجر ليلحقوا بي بعدها كلا من الخلطي عبد العزيز والجويرة عزيز وهما مراكشيان يقودانهما نحوي، وبالقرب منا كان مشهد الشاف ميمون مكبلا كما تكبل الإبل والعصي تأكل من جسده من دون سبب.جاءنا أصحاب الأمن برئاسة محمد الكرطون وهو وجه إجرامي معروف في "البوست سينك" الرهيب.بدأت التحقيقات كما اعتدناها عنيفة قاسية، مريرة وتافهة، حاقدة انتقامية.بعد حوالي عشرة أيام، وبينما نحن منهمكون في العمل الشاق فإذا بالزبانية يأتون إلينا وأخذوا منا خمسة عناصر إلى البوست 5، بمناسبة ذكرى ما، ليلحقوهم بعدها بمركز 27 فبراير.
نحن الآن في سنة 1981، وما أقساها من سنة، تكالبت علينا فيها المآسي، ونزلت من السماء ونبتت من تحت أقدامنا النقم: يبدأ العمل على الساعة الرابعة صباحا ولا ينتهي إلا بعد منتصف الليل.ومن وجوه الإجرام التي قادت الحراسة علينا أذكر محمد فاضل المعروف جدا وعبدو لعور والروبيو والمارتيو وبرنوخ وبيي بيه وأحمد محمود وبوخنيشيش وابريكة وبهاه وزايد المتوفى في حادثة و سويلم ولد الفيلالي و محمد مصطفى وخطري وبيشة الأعور وسلزار وميتشيل وآخرين.وزعونا بين ثلاثة أصناف من الأشغال، إما صنع الآجر (البريك) وذلك عناء تهابه الإبل، أو أشغال البناء وتلك طامة الطامات أو بناء منصة الاحتفال بذكرى 27 فبراير وتلك أم الكوارث.يبدأ العمل قبل الفجر إلى الواحدة زوالا فيأتوننا بما يشبه أكل الكلاب أما الماء فكنا نشرب من المياه التي نخلط بها الرمال لصنع البريك، حتى إذا استوينا جلوسا ل"الأكل" أتت عواصف الصحراء العمياء لتملأ كأس العذاب الذي نشربه من رمالها.ظلم البشر وظلم المناخ الصحراوي القاحل.
في يوم من تلك الأيام رأيت محمد عبد العزيز، رأيته رفقة عصابته ومن عناصرها كان الجزائري سعيد اعبادو والشريف مساعدية، أخذ "الكابران" كرباجا وضرب مسجونا مغربيا، ثم أمر الحرس بأن يشددوا علينا الخناق ويكثروا الأشغال ثم مضى للاجتماع مع رهطه، ولربما كان من نتائج ذلك الاجتماع أن أصبحنا نشتغل وبين الفينة والأخرى يمر الرصاص فوقنا أو بجانبنا لترهيبنا وتحسيسنا بالموت في كل حين، ولم تمض تلك الأشهر الثلاث إلا وقد أصبحنا أقرب ما نكون إلى الأشباح من شدة الإنهاك وسوء التغذية، أو بالأحرى انعدام الأكل والتطبيب.
في ظل هذه الأجواء ببردها المؤذي كان مصير كل من شكوا فيه، ولأتفه الأسباب، أن يبيت الليل مكبلا في الحاوية، وهي خزان حديدي يستعمل في بواخر شحن السلع كانوا يضعونه تحت الأرض ولا يتركون سوى ثقب لإدخال السجين وإخراجه ليكون البشر في علبة حديد كبيرة تحت أرض إما تقتل بردا أو قيظا في وقت الحرارة، وما أدراك ما حرارة الصحراء وقرها!
بعد مضي تلك الشهور القاسية اجتمعنا من جديد نحن السجناء، بعد أن كانوا قد شتتونا على مواقع عدة. التقينا لنتفقد بعضنا ويحكي كل منا ما حصل له وبمن التقى من إخواننا المسجونين بنقط أخرى.
ظل الحال موسوما بالمعاناة في أقسى وأقصى حدودها.لم نكن نسمع من الأخبار ما يبشر بقرب نهاية العذاب.


أحمد الجلالي
londonsebou@hotmail.co.uk

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق