السبت، 12 سبتمبر 2009

في حضرة حقد جزائري أعمى


في اليوم الخامس للاعتقال أخذوني إلى مكان آخر وسلموني لابراهيم غالي. كانت المرة الأولى التي أتعرف فيها على غالي ذاك. ولا تسأل هنا عن الأكل الذي كنا نتناوله: ماء أحمر اللون مختلط بالرمل وأشياء تأنف الكلاب من أكلها. كان الانتقال في بدايته وكانت تلك علامة من علامات الآتي المر. دعوا ابراهيم غالي وقالوا له: تعال لترى "التعركيبة" أي الذبيحة. اعتبروني ذبيحة سيستمتعون بها. كان ابراهيم غالي يحمل قضيبا هو بين الحديد والبلاستيك العصي على الانكسار، وهات يا عذاب. هل أصرخ؟ ومن يسمع! أم أبكي؟ وفيم يجدي العويل! غالي بعد أن تعب من سلخي ألقى فينا، نحن المعتقلين لديهم، خطابا: جئتم يا كلاب إلى الصحراء! ها أنتم بين أيدينا وستعرفون ما معنى الجزائر.
بعد غالي جاءنا اثنان من المخابرات الجزائرية أحدهما طويل القامة والآخر نحيف شيئا ما. جاءا لاستنطاقنا، لم أعط اسمي الصحيح بل سميت نفسي ادريس السعدي بدل الزايدي. كنا في الحفر واتبعا نصائح محمد فاضل الذي ثبت عزيمتنا واسترخص تضحياتنا في سبيل الوطن، ونصحني بأن أقول لهم إني جئت العيون للعمل ولا أعرف شيئا. شتمني الجزائري طويل القامة وقال لي: لن ننس لكم ما فعلتم بنا سنة 1963 الحسن الثاني يحلم وأنتم تطبقون. وتوجه إلي: وأنت يا كلب يا برهوش عجباتك الصحرا؟ سنقتلكم ونأكل أكبادكم. كنت ألوذ بالصمت واستعصم بالله، لم يكن دمي قد سخن بعد. أعطيتهم كل المعلومات عني خاطئة، وما زلت حتى اليوم أتذكر المدعو البندير المنحدر من اولاد ادليم الذي جاءني وأنا معصوب العينين وهمس في أذني: إن بقيت حيا يا ولدي ونجوت من الموت فسوف أخطفك منهم وأعيدك للمغرب، وهو ذاته الذي جعل يدي مكتوفتين إلى الأمام بعدما كانتا مقيدتين إلى الخلف وأزال عن عيني جزءا من الثوب الذي كان يحجب عني الرؤية فرأيت أشياء ارتعدت لها فرائصي: دبابات جزائرية وجيوش ومدافع، رأيت ذلك بينما كنا في طريقنا إلى بير امهيريز، وفي هذه النقطة من أرض الجزائر بدأت الأمور تتكشف لي وبدأت عورة الجزائر تتبدى، هناك تناوب على جلدنا خلق كثير، ونحن نذوذ بصمتنا عن آلامنا المبرحة. كانت ليلة ليلاء تعرفت فيها على المسماة السنية بنت احمد مرحبا وكانت عضوا نشيطا في الإجرام إذ خيرتهم بين تسليمها الكلاشينكوف لقتلي أو تمكينها من جلدي. أكلت المجرمة من لحمي.

في الصباح الباكر أخذونا للبير لحلو قبل أن تتمكن منه قواتنا المسلحة وهناك وجدنا في استقبالنا السويدي الملقب ببومدين وزنجيا ملقبا كيلوط واسمه الحقيقي خير الله غير أنه كان يجدر بهم تسميته »شر الشيطان« إذ سلط علي تسليطا جهنميا وضربني مرارا بعقب سلاحه حتى شبع مني. وفي غمرة هذه "الحفلة" من "الأشقاء الجزائريين"، فوجئنا بنفر من الناس قيل لنا إنهم صحافيون جاؤوا لرؤيتنا. كان من بينهم شخص قرأت على سحنته وعلى بطاقة لصيقة بصدره أنه سوري ومراسل لصحيفة أو مجلة تسمى دنيا العرب وامرأة قالت إنها لبنانية. جاءني سيدهم أحمد بطل وقال لي إنهم سيزيلون عنا الأغلال وعلينا أن نقول لرجال الإعلام الحقيقة كاملة ونحدثهم بما وقع بالضبط. سألني ذلك السوري كيف دخل المغرب للعيون وما هو انطباع الصحراويين؟ سألته إن كان يريد فعلا أن أجيبه بصدق فرد علي: أي والله هذا ما أريد فأجبته أن المغرب دخل صحراءه وأن الصحراويين رحبوا به واستقبلوه بالزغاريد والأعلام الوطنية ونادوا بحياة الملك وأضفت أن المغرب دخل بالسلم وتموين المواطنين ومدهم بكل متطلبات الحياة. ظننت أنهم ربما يصدقونني وتشفق قلوبهم ويصدعون بالحق، فإذا بتلك الصحافية التي ادعت أنها لبنانية تنتفض في وجهي وأصرت على أن يسلموني لها لكي تقتلني وتمسكت بمطلبها. كان المصور ألمانيا شرقيا وهو الذي تدخل رفقة السوري لمنعها من إيذائي.كانت تحمل في أعماقها نقمة كبيرة على المغرب.

ذهب الصحافيون وجاء سيدهم أحمد بطل وأمر الزنجي الملقب بكينوس بربطي إلى شجرة ونالا الكلبين من لحمي وجلدي ما جعلني أفضل الحياة على الموت.سلمت أمري لله وأيقنت أن الموت لا بد آت ولا علي أن يعجلوا لي به في تلك اللحظة.

أدخلوني رفقة محمد فضل إلى المرحاض مقيدي الرجلين واليدين وكلما دخل جزائري إلا وأصر على التبول فوقنا إمعانا في إهانتنا وإشباعا لفطرة فطروا عليها وهي الحقد الأعمى على المغرب. لم نستسغ الذل فالتفت محمد فضل إلى أحد الكلاب من تحت شلالات البول وقال له: إن ما تفعلون بنا ليس من شيم المسلمين فأجابه الجزائري: اسكت ربك فقال له فضل إن كنتم رجالا كما تدعون فاقتلونا لتريحوا وترتاحوا فأعاد عليه "اسكت ربك" وضربه بحذائه العسكري الثقيل فكسر فكه.

كنت مثخنا بجروحي ورضوض أخرى في سائر جسدي وفضل مكسور الفك ومع ذلك فكل هذا لم يشفع لنا إذ أخذونا في اليوم الموالي إلى جنوب المحبس لمباشرة أشغال الحفر. كانت ليلة جهنمية رأيت فيها ورفاقي صنوف العذاب وكلما تذكرتها عادت آلامها لتوجعني من جديد، فاللهم اجعلها مغفرة للذنوب وأبقيها لعنة تلحق نسل الجلادين إلى يوم الدين. في تلك الظلمة الحالكة طالعني وجه قبيح يدعى صاحبه الحاج الذي تشفى فينا وعذبنا هو وعصابته طيلة الليل ولم يشبع فاستأنف التعذيب في الصباح الباكر، هذا "الحاج" قال لنا: نادوا على الحسن الثاني ليخلصكم منا سنذيقكم يا أبناء القحبة مر العذاب ولننكل بكم تنكيلا ما عرفتموه.

وقد كان من نتائج تلك الليالي القاتمة أن قتل محمد ولد الحسناوي وهو من سكان السمارة من أب تاجر.

مات الحسناوي تحت السياط وقد كان من ضمن 14 معتقلا آخرين كنا وجدناهم هناك لكنهم لم يتركونا مجتمعين في مكان واحد. كان من ضمن من وجدت من بين أولئك الأسرى السلامي ولد بوعيلة، الذي يشتغل الآن في العيون ولست متأكدا من رتبته في سلك السلطة. السلامي من اولاد ادليم ذاك تعاهد معي منذ تلك الليلة وقال لي، ونحن نحفر حفرا جهنمية كان الأعداء يعدونها لتخزين الذخيرة ، إنك من هذه اللحظة أخ لي. مرت ليالي الحفر ثقيلة سوداء على أجسادنا و نفوسنا وأحاسيسنا. وفي واحدة من تلك الليالي سيئة الذكر جاؤوا إلينا وأعادونا إلى المحبس، ولست أدري لماذا حملوني والسلامي في سيارة منفردة. لم يشاؤوا أن نكونا مع بقية المعتقلين المختطفين. وإمعانا منهم في الانتقام منا وضعونا في فرن كبير كان صهده يخنق الأنفاس، ولو الألطاف الإلهية لكنا فارقنا الحياة، والسلامي لا بد أنه مازال يذكر تلك المواجع إلى اليوم. لم تدم رفقتي بالسلامي طويلا فأبعدوه عني إلى مكان آخر.

بعد أسبوع تقريبا حملوني إلى تندوف ليعرضوني على الضباط الجزائريين: مجموعة من الخنازير الذين يشبهون الضباط الروس الستالينيين حيث لا رحمة ولا شفقة.تقدم مني كبيرهم وقال لي: هل جعت؟ فصمتت. ثم سألني: ما الأحسن خبزة أم صفعة؟ فأجبته على الفور: صفعة! فأمر في الحين زبانيته الأشرار فأطعموني من انتقامهم ما لا تستطيع الكلمات وصفه طيلة ليلة تشيب لها الولدان.
أحمد الجلالي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق