| 0 التعليقات ]


لنبدأها من حيث بدأت. بعد المسيرة الخضراء سنة 1975، كنت من بين الشباب المغاربة الذين تطوعوا لخدمة الوطن العزيز وتثبيت وجوده وبسط سيادته على أقاليمه الصحراوية المسترجعة. كان من بين أدواري، مثل كثيرين، توعية الصحراويين بانتمائهم للوطن وجعل أواصر المحبة وروح الوطنية الصادقة تنمو وتترعرع في نفوسهم، لكن وما نشاء إلا أن يشاء الله عزل وجل. لم يكن مضى على ممارستي لعملي بالعيون أكثر من سنة حتى شاءت الأقدار أن يكون يوم الثلاثاء 13 فبراير 1976 منعطفا حاسما في حياتي، يوم بدأ معه تاريخ شخصي ضمن تاريخ وطني أكبر عشت فيه وعرفت وقاسيت وكابدت وتعلمت ما سيأتي ذكره.
أذكر أن جنودنا البواسل في تلك الأيام كانوا قد قاموا بعملية شجاعة مشهودة في أمكالة واعتقلوا ستة جزائريين، لكن بقايا جحافل الجراد الآدمي المحسوب على الجزائر والمزتزقة، بزعامة اولاد علي بويا، بدأوا يتسللون إلى مدينة العيون، طبعا لم يكن الوضع الأمني مثل ما هو الحال عليه اليوم. أبلغني بعض الإخوة بما يقع ومع تلك المعلومة تناهى إلى علمي أنه ربما سيحاول أولئك المتسللون زرع الألغام، علمت ذلك من شخصين وبعدها توجهت إلى مسؤول يدعى عمر السبياوي فأخبرته بالموضوع لأسرع الخطو إلى "البرادور"، الذي صار فندقا الآن، وكان ساعتها مقرا لأحمد بنسودوة، ممثل جلالة الملك بالصحراء.
استأذنت من مولاي هاشم ودخلت مكتب بنسودة. أخبرته بالاختطافات التي طالت إخوانا آخرين. قبل ذلك كان قد حذرني السلامي، أخ المرحوم الحسن أحمد علي عبد الله، من أولئك المرتزقة وقال لي إنهم لن يرحموك إن وقعت بين أياديهم الآثمة، كما أذكر أن قبطانا من الدرك لم أعد أذكر اسمه دعا لي بالتنوير وطلب مني أن أنتبه إلى حالي و أن آخذ الحذر ما استطعت من أولئك الخونة المندسين بيننا. ولكن أي حذر سينفع من قدر محتوم؟
كنت أقطن بمنزل لبوسوفة الحبيب وهو من المقاومين الكبار في تاريخ المغرب، من أصحاب محمد الخامس والحسن الثاني رحمهما الله. كنت بمعية زملاء آخرين نسجل تقارير صادقة ومضبوطة حول ما يحدث ونرفعها للسلطات المعنية، ولربما كنت أول من كتب تقريرا بأنشطة علي بويا المشبوهة ورفعتها للمرحوم صالح زمراك أحذره فيها منه. كانت كلمة المخربين هي المصطلح السائد بيننا حول أولئك الخونة.علي بويا، كما علمت من مصادر موثوقة، كان يمول المخربين. في الليل كنا نحرس المدينة ولكن في النهار كان يختلط الحابل بالنابل والماء بالطين والعدو بالصديق فيحدث التسلل.ذهبت إلى قطاع خارج المدينة لمراقبة سيارات من نوع الجيب لمعرفتها ومعرفة أصحابها. رأيت الجيبات تدخل العيون من اتجاه بوكراع نهارا جهارا فالتفت إلى ابراهيم ولد محجوب ولد بيركات وقلت له: الجيبات تدخل أماممنا فهل سنظل نتفرج عليها؟ وأي دور لنا والحال هذه؟ أسرعت إلى مولاي هاشم فقلت له إننا سنعمد إلى حرق الجيبات لكنه خالفني الرأي بحجة أننا لو فعلنا فسيقال حينها إننا من بادر بالاعتداء وإننا ظالمون.
كنت ألتقي الصحراويين وأدعو كل من يحتاج إلى المساعدة منهم أن يلتحق بمستودعات المؤونة التي تدفقت بخيرات كثيرة على الصحراء وأشرح لهم أن المغرب لم يدخل صحراءه غازيا ولا منتقما وإنما لمصلحة الصحراويين وخيرهم ولإحياء صلة الرحم مع أبنائه وأذكرهم بمضامين الخطاب الملكي في هذا الشأن بمناسبة انطلاق المسيرة الخضراء.
قبل أن أقع بين يدي العدو كنت في العيون ما أزال في ريعان شبابي وكنت أكثر ما ألتقي من الناس فئة الشباب ومنهم من ناصرني وسهل مهامي، وهم جملة من المواطنين الوطنيين الذين مازالت صلتي بهم وثيقة لحد اليوم رغم أن عددهم يربو على مائة وخمسين أسرة. مازال أبناؤهم إلى الآن يعرفونني ولما عدت لأرض الوطن التقاني بعضهم بأكادير. هؤلاء الشباب منهم اليوم موظفون وأطر والحمد لله. كان الأمر يتطلب إلى جانب الثقة والحذر الضروري في مثل تلك المهام صرف المال الذي بذلت منه الكثير دون منة على الله ولا على الوطن.
في ذلك اليوم الذي تسلل فيه المخربون إلى العيون عمدوا إلى إحراق المستودعات ليلا. كنت أقطن بحي سوق الجمال. أصبح صبح ذلك اليوم فانطلقت كالعادة للقيام بجولة استطلاعية لاستقصاء أخبار المدينة وأحوالها على أن ألتقي لاحقا مسؤولي المباشرين وأخبرهم بأي جديد. مررت بداية بالمستودعات المحروقة وكنت أعرف أصحابها جيدا ومنهم عبد السلام ولد الكاد طابور ومحمد ولد الجبلي كما عبرت ناحية منزل السيد الحبيب ولد بوسوفة للاطمئنان على أحوالها. والحقيقة أني ساعتئذ كنت أخطو نحو مصيري المحتوم وكان قدري قد أخذ وجهة كان علي أن أوليها معه حيث ولى!
بينما أنا منشغل بالتحذيق في حجم الخراب الذي أحدثته الفئة الضالة، وجدت نفسي محاطا بنفر منهم يرتدون اللباس الصحراوي. كانوا ملثمين. أرسلوا الطلقة الأولى فأصابتني على مستوى الركبة. ارتموا علي كأية وحوش مفترسة وفي لحظة كنت مقيد اليدين والرجلين معصوب العينين داخل منزل لا أعلمه. كانت تلك العصابة قد اختطفت قبلي في ذلك اليوم أناسا آخرين لم أكن قد علمت بهم، وسأكتشف ذلك لاحقا.
كنت أسمع منهم ولا أرى وجوههم. من بين ما تداولوا على مسمع مني أن بعضهم سيذهب خارج ذلك المنزل/المعتقل ليستطلع، وأمرهم بإطلاق الرصاص علي إن حدث أي شيء يمكن أن يسير عكس تخطيط أعضاء تلك العصابة الإجرامية.
معصوب العينين داخل كيس كبير كان وجهي، صوتي مكتوما كان. أنفاسي أعدها نفسا نفسا، ومع كل نفس كنت أكرر الشهادة. كنت مستعدا للموت الذي باغتني من حيث لا أدري.
لا أعلم كيف ولا متى أخذوني على متن سيارة جيب، وما استفقت ولا رأيت ما يحيط بي إلا لأجد نفسي ناحية بوكراع. فتحوا الكيس فوجدت نفسي وجها لوجه مع مجرمين قياديين هم علي محمود وزامبلا وفليبي.كان الوقت مساء. ودعت في نفسي المغرب ومعه رأيت أني لا بد مفارق للحياة أيضا. رأيت الموت والحياة مجتمعين. وقف أمامي علي محمود وبعد أن أزال ساعتي اليدوية و 3400 درهم كانت معي وورقة شبه تعريفي عليها إسمي فقط، بعد هذا قال لي: انس كل ما عشته وتعلمته وهيا إلى حساب لا يخطر لك ببال! قيدوني مثلما تقيد الإبل ورموني في سيارة أخرى وفوق جسدي رموا شبكة.أخذوني إلى ناحية امكالة حيث مكثت بها معتقلا أربعة أيام وهناك وجدت معتقلين آخرين هما ولد اسريسر ومحمد فاضل. ولد اسريسر هذا لأنه صحراوي لم يتشددوا معه ووثقوا فيه فما كان منه إلا أن استغل الموقف وهرب ثم أبلغ المسؤولين بمكان اعتقالي رفقة أربعة آخرين. ورغم التمشيط الذي قام به إخواننا إلا أنهم لم يعثروا علينا.
أحمد الجلالي

0 التعليقات

إرسال تعليق

 
') }else{document.write('') } }